Sunday, 30 October 2011

يوم (شبه) عادي

المصدر :Jaber al-Anazi
تحرك عقرب الساعة  الكبير قليلا إلى اليمين، فوصل إلى الرقم 12، بينما كان العقرب الصغير قد سبقه إلى الرقم 7. دق جرس المنبه، فمد سمير يده و أسكته، و عاد إلى النوم.
ثم بعد خمس دقائق، عاود المنبه رنينه، فعاود سمير فعلته مرة أخرى، قبل أن يستسلم للنهوض عند الجولة الثالثة من رنين المنبه بعد خمس دقائق اخرى.

جرّ سمير نفسه  إلى الحمام على مضض، و عيناه لا تزال مغمضتان؛ إستحم سمير ثم ارتدى بذلته الرسمية. توجه بعدها إلى المطبخ ليشرب فنجان القهوة الذي واظب على تناوله صباح كل يوم على مدى أكثر من عشرين عاما.

ما إن أنهى سمير قهوته حتى توجه ليبدأ يومه المعتاد، فنزل الطبقات الست مستخدما  المصعد، ثم اشترى جريدته المفضلة و وضعها تحت إبطه دون أن يتصفحها، و من ثم توجه نحو حماره ليجده مستيقظا و في انتظاره.  إمتطى سمير حماره و توجه به إلى مكان عمله، سائرا بين السيارات و الحمير و سائر المطايا الأخرى.

و أثناء مسيره، رأى سمير ما اعتاد رؤيته صباح كل يوم في شوارع العاصمة: 
أول ما طالعه كان أحد مكاتب التشغيل التي تنتشر في كل الشوارع، و قد اعتلى مدخله لافتة كبيرة كتب عليها "إستقدام نساء فقيرات جدا و فارعات القامة من كافة الدول المنضوية سابقا في حلف وارسو".

ثم تقدم قليلا و رأى عدة عناصر من الشرطة. فرجال الشرطة و شتى أجهزة الأمن الأخرى، كثيفو الوجود في المدينة التي يقطنها سمير، و يرتدون بّذات تتعدى بعدد ألوانها ألوان الطيف؛ فمنها الرمادي و الزيتي الغامق و الزيتي الفاتح و البني و الكحلي و الأسود.

أول شرطي رآه سمير كان يقف أمام فرن للمعجنات، فكان الشرطي ينظر إلى أصناف المعجنات بينما يده اليمنى تداعب بطنه المتدلي فوق الحزام تارة و خصيتيه تارة أخرى.

ثم سار به الحمار قليلا ، فرأى سمير شرطيا آخر يضرب بائعا متسولا، لا يتعدى من العمر السنوات العشر. فتابع طريقه قدما، فإذا ببصره يقع على سيارة رباعية الدفع، زجاجها داكن، يترجل منها رجل طويل القامة يلبس نظارات سوداء، سرعان ما شرع بكيل اللكمات لشرطي السير حتى وقع الأخير على الارض، فعندها أخذ الرجل بركله.

كانت قدم الرجل تطأ رأس الشرطي تارة و شجرة الأفوكاتو التي تتوسط قبعته العسكرية تارة أخرى،  و الناس من حوله، و منهم سمير نفسه، يتفرجون قليلا ثم يتابعون مسيرهم غير مهتمين. 

تابع سمير مسيره،  قبل أن يتوقف الحمار فجأة. حاول سمير أن يجبر الحمار على التحرك و لكن دون جدوى، فقرر حينها أن يستوقف سيارة أجرة. جلس سمير إلى جانب السائق، و كان الأخير يستمع إلى برنامج إذاعي يستضيف الله . 

كان الله يتكلم إلى المذيعة بإسهاب عن شتى المواضيع الدنيوية و الروحية على حد سواء، وكان يتحدث بالعربية طوال الوقت، غير أنه كان يشرد أثناء الحديث، فيتكلم بالبرتغالية حينا، و باللغة السواحيلية حينا آخر، قبل أن يتنبّه إلى الأمر و يعود للتحدث باللغة العربية من جديد.

كان الله هادئا على غير عادته، و قد استرسل  بالحديث إلى المستمعين و نصحهم بالإكثار من الصلاة.  

و قد ارتاح الله أثناء الكلام مع المذيعة اإلى حد أنه قرر البوح بسر عظيم.

مد سائق الاجرة رأسه فجأة من نافذة السيارة، و قطع صمته الطويل بأن صرخ بأعلى صوته: " شوكولا!"، و ذلك لدى رؤيته فتاة إثيوبية تمر ماشية. أما سمير، فكان جل ما يهمه هو أن يُجنِّب عينيه الدخان المتصاعد من سيجارة السائق. هكذا فوت الإثنان فرصة معرفة موعد يوم القيامة.

وصل سمير إلى مقر عمله متأخرا، فركض مسرعا إلى موقعه. 
كان سمير يعمل في مركز لتفقيس بيض الديك الرومي، و المركز كان مساهمة من الشعب الأميركي لدعم النشاطات البديلة عن الصحافة. و بعد نحو عشر دقائق من جلوسه فوق العش المخصص له، فقست إحدى البيضات التي في العش، و خرج الصوص ينظر إلى سمير بحنان، غير أن سمير كان منشغلا بقراءة أخبار الدوري الإسباني بكرة القدم، فاستشاط غضبا لدى قراءته نبأ خسارة نادي برشلونة، و أخذ يشتم و يرفس الأرض بقدمه، إلى أن داس الصوص، فعوقب بحسم 75 دولارا من أجره الشهري البالغ 50 دولارا.

إتجه سميرنحو بيته بعد انتهاء الدوام، و مر بحماره ليجده مسروقا. و سرقة الحمير في المدينة التي يعيش فيها سمير كانت أمرا معتادا، حيث يدير وزير الصحة و رئيس لجنة حماية المستهلك في وزارة الإقتصاد شركة لإنتاج لحوم الحمير المعلبة، تعتمد على سرقة الحمير كمصدر رئيسي للحومها. 

تابع سمير مسيره نحو بيته، و ما إن وصل إلى مدخل  البناية حيث يقطن، حتى ضغط زر المصعد،فإذا به يفجع بما لم يصادف في حياته، لا هو و لا أي من ابناء بلده الآخرين؛ فقد كان التيار الكهربائي مقطوعا !
 

Saturday, 22 October 2011

في آخر صورة للعقيد: تكاد الثورات لا تعرف شيئا من النقاء

(Reuters )
سقط القذافي أخيرا.

إنتهى الدكتاتور الذي طالما خلناه مضحكا بكتابه الأخضر بما  يحويه من خرفشات معتوه يدعي العبقرية، و شعره المجنون، و خيمته التي  كانت لا تفارقه أنما توجه، و  نسائه اللواتي استبدل بهن الحراس الذكور، و هو لم يتوقف عن إضحاك العالم حتى في آخر أشهر حياته، عندما أطلق  صيحته "زنقة زنقة".   و انتهى أيضا من  كان يكتم صورة الليبيين و صوتهم عن العالم، و يكتم العالم عنهم؛ لقد كانت الثورة الليبية الفرصة للكثير من العرب لكي يروا أناسا ليبيين عاديين عبر شاشات التلفزة، و يسمعوا  اللهجة الليبية.

و لكن جاءت الصورة الأخيرة لا تمت للضحك بصلة: رجل  منهك تسيل منه الدماء، و تتوالى على وجهه اللكمات.

لقد كان محاطا بشبان ولدوا في عهده و لم يعرفوا صورةَ غيره في شوارع مدينتهم و على شاشة تلفزيونهم الحكومي. كانت النشوة قد أخذتهم إلى  حد الجنون؛ فيصيحون في وجهه بشكل هستيري :
"مصراتة! مصراتة!.. مصراتة يا كلب، مصراتة!" لم تسعفهم اللحظة على التحدث إليه بجمل مكتملة، أو ربما إعلامه بكل ما آسوه؛ لم يتسن لهم تعداد أسماء أقاربهم و رفاق سلاحهم الذين انتزعت  رصاصات الكتائب حياتهم.

كانوا يعلمونه بأنهم سيأخذونه إلى المدينة التي خرجوا منها لينازلوه، المدينة التي أمر بقصفها طوال أكثر من ثمانية أشهر، و قطع عنها الماء و الكهرباء. لقد كانت صواريخ الغراد و الكاتيوشا و قذائف المدفعية الثقيلة تنهمر على مصراتة من أطراف مدينة بني الوليد، التي تحوي قاعدة عسكرية ضخمة.

وقد سنحت لي الفرصة  للتحدث عبر الهاتف مع ناطق باسم ثوار المدينة قبل حوالي سبعة أشهر. كان الرجل منهكا، لا يميّز الأيام و التواريخ من بعضها، و لكنه كان فخورا بما صنع أبناء مدينته، فيتلو تفاصيل المعارك، ثم يناشد العالم تأمين الغذاء و المستلزمات الطبية و وسائل إجلاء الرعايا الأجانب عن المدينة.
ترنحت مدن أخرى، مثل أجدابيا، و تداولها كل من الثوار و كتائب القذافي  أكثر من مرة، علما أن  أجدابيا كانت أقرب إلى عاصمة الثوار في الشرق، بنغازي، بينما بقيت مصراتة عصيّة على الإحتلال.

 كان عقاب معمر القذافي إذا أن يُقتاد إلى المدينة التي أراد إزهاق روحها، و لكن تبين أن عقابه كان أوخم؛ ظهرت  صور القذافي  ميتا، بعد أن بدا في الصور الأولى قادرا على الكلام و المشي. يترك التتابع الزمني للصور هذه شكوكا كبيرة حول ما أعلنه الثوار و القادة السياسيون عن كون القذافي قد علِق في تقاطع للنيران بين الكتائب و الثوار، و يزيد في الشكوك إعلان المجلس الإنتقالي عن عدم السماح بإجراء أي تشريح للجثة. كما و يبدو من شبه المؤكد أن يكون إبنه المعتصم قد لقي حتفه إعداما، حيث يظهر تسجيل مصور له و هو يدخن و يتكلم إلى حراسه قبل أن يعرض ميتا. 
يعرض معمر القذافي الآن  و إبنه ميتين في مصراتة،  حيث يستطيع كل من فقد عزيزا له على أيدي جنوده أن يراه و يحتفظ بصور له في هاتفه الجوال، و هي نعمة جديدة من نعم التكنولوجيا -- و لا أقولها تندّرا --  أن تسنح لك الفرصة بأن تحتفظ بصورة دكتاتور أراد إجبارك طوال أربعة عقود على أن تعترف به إلها، أن تسنح الفرصة بأن تحتفظ بصورته في علبة بلاستيكية صغيرة تضعها في جيبك، كمن يعيد المارد إلى القمقم.
و صور القتلى من الرؤساء لسنا معتادين عليها؛ لقد تعودنا أن نرى صور أشلاء المدنيين في كل من لبنان و فلسطين و العراق و أفغانستان، و مؤخرا في اليمن و ليبيا نفسها. لقد كان التسجيل الذي يظهر العقيد قتيلا، أو ذاك الذي يظهره يُنكل به قبل أن يقتل، هو الثالث من نوعه، فقد حظي العراق بتاريخه الدموي بالإثنين الآخرين؛ إذ بث تسجيل لإعدام الرئيس عبد الكريم قاسم عام 1962، قبل الفورة الإلكترونية في وسائل التسجيل و الإتصال بعقود عديدة، كما تم تناقل التسجيل الخاص بشنق صدام حسين بعد أربع و أربعين عاما.

و لكن ماذا تخبرنا الصور الأخيرة للقذافي، غير التأكيد على أن الرؤساء قابلين للموت، بغض النظر عما إذا كان موتهم ظلما أو عن وجه حق؟
تؤكد هذه الصور حقيقة يصر الكثيرون على تجاهلها، و هي أن الثورات ليست بالنقاء الذي يتخيلونه.

لقد قتل كل من معتصم و معمر القذافي بعد الأسر، و ذلك بالطبع لا يضعهما  لا في مصافِ الشهداء ولا الأبطال. و لكنه و للأسف، يؤكد ما كان يتم تناقله حول القتل العشوائي الذي اعتمده الثوار، و الذي كان يستهدف من يعتقد أنهم مرتزقة أفريقيون، و هي أنباء كان يتم إخفاؤها عن صفحات و شاشات الإعلام العربي الموالي للثورة.
ليس مستغربا أن يحدث ما حدث؛ فأربعة عقود من العنف و القتل لن تولد إلا العنف و القتل كرد عليها. إنه من الصعب التخيل أن تكون  ثورة غير دموية قادرة على الإنتصار على كل القتل و الدمار الذي اعتمده القذافي.

و حتى الثورة المصرية التي لم تعمد إلى السلاح، لم تقدر أن تقدم للعالم صورة نقية لا تشوبها أية شائبة: لا زلت أذكر بعضا من البث المباشر الذي كانت تنقله قناة الجزيرة مباشر من ميدان التحرير. كانت المناسبة قداس يوم الأحد، و قد أقيم بموازاة صلاة الجماعة، التي كانت تقام كل يوم جمعة. كان معرّفو الحفل يشرحون للجموع التي  جُلُها من المسلمين، ماهيّة الأناشيد و الصلوات الكنسية التي كانت تتم تلاوتها، فكان يأتي الجواب صفيرا و زعيقا و ضربا على الطبلة، و كأن الجموع كانت في مباراة كرة قدم، لا في حضرة طقس ديني هو من أقدس أقداس شركائهم في الوطن و الثورة   . 

يقول المفكر الشيوعي حسن حمدان (مهدي عامل)، و الذي تم اغتياله في بيروت عام 1987: 
"الثورة ليست لفظا أو تجريدا، إنها طمي الأرض، لا يعرفها من يخاف على يديه من وحل الأرض...!! و كيف تكون الثورة نظيفة .. و هي التي تخرج من أحشاء الحاضر متسخة به تهدمه و تغتسل بوعد أن الإنسان جميل حرا".

و إلى حين تحقيق جمال الإنسان و حريته الموعودين، لا بد من حفظ الصورة كاملة، إنصافا للتاريخ.